المقامة الغَزِّية


حدثني خالد بن يزيد ، بعد قدومه من سفر بعيد ، وقد بدا عليه التعب ، وعلا وجهه الحزن والغضب ، فمازحته وداعبته ، وسامرته ومن ثم عاتبته .
فقلت : أن يبدو عليك التعب ، والمرض والنصب ، فهذا ليس بغريب ، على كل مسافر وغريب ، ولكن حزنك حيرني ، وغضبك أقلقني ، فبالله عليك أخبرني ، عما رأيت وبين لي ، هل رأيت في سفرك ما يغضب ، ويثير الحزن ويسبب ؟ .
قال: بعدما استعاذ واستغفر ، وهلل وسبح وكبر ، أيها الحبيب اللبيب ، سؤال مثلك لمثلي غريب ، فلو رافقتني لما عاتبتني ، ولو أخبرتك لعذرتني .
قلت : أخبرني فكلي آذان ، وبين لي فكل الوقت لك والزمان .
قال : سمعت عن سقوط جدار غزة ، دار الشرف والإباء والعزة ، وفتح حدودها مع مصر ، فقلت ليس لي بعد اليوم من عذر ، فحملت أمتعتي ، وكتبت وصيتي ، بعد استشارة واستخارة ، واستعاذة من النفس الأمارة ، فجعلت الوجهة فلسطين ، وأخص منها " قطاع " المرابطين ، غزة الأبية ، غزة ياسين والرنتيسي وهنية ، أريد أن أعرف أحوالها ، وأتبين أخبارها ، أريد أن أعرف سبب الثبات والصمود ، في وجه الصهاينة اليهود ، مع تخلي القريب ، وتواطؤ العبيد ، أريد أن أتعلم منهم صدق اللهجة ، وقوة الحجة ، أريد أن أتعلم كيف ربوا هذه النفوس الأبية ، وكيف صنعوا هذه العقول العبقرية ، أريد أن أعرف لغز حب الموت ، حتى صار أمنية ربات البيوت ، أريد أن أعرف كيف نزعوا رهبة الدبابة والمدفعية ، من نفوس الطفل والبنية ؟! ، أريد أن أعرف كيف نسي شبابهم الهيام ، والتغني والغرام ؟
فصار شغلهم البندقية ، وهمهم القضية ، أريد أن أعرف كيف جمعوا بين السياسة والجهاد ؟ والعلوم ودعوة العباد ؟ ، أريد أن أعرف كيف جمعوا جوامع الخيرات ؟ وسلموا من عجز الثقات ، حتى صاروا مضرب الأمثال ، على مر السنين والأجيال .
فلما اقتربت من الحدود ، تذكرت خندق غلام الأخدود ، فرأيت الزحام والركام ، والصياح والصراخ والآلام ، ورأيت وجوهاً حادة ، ونفوساً جادة ، حطمت بصبرها القيود ، واخترقت بإيمانها الحدود ، ورأيت أسواراً محطمة ، وأراض مقسمة ، وبيوتاً مهدمة ، فلما بالدخول هممت ، فإذا المنادي ينادي : أيه الغريب من أنت ؟ !!.
قلت : مسلم من جزيرة العرب ، لي في غزة قلب وحب وإرب ، جئتها ناصراً يوم عز الناصر ، ومؤازراً يوم تخلى المؤازر .
قال : عجباً ما قلت ، والأعجب ما فعلت ، جئت إلى الجحيم والشقاء ، تاركاً النعيم والرخاء ، لم يسبقك إلى هذا أحد ، وخصوصاً في هذا البلد .
ثم قال : ألم تعلم أن الحصار قد عاد ، وعادت غزة للأصفاد ، وكأنها في هذا الكون وحيدة ، ولم تنتم يوماً إلى أمة مجيدة .
فرجعت وفي نفسي حسرات ، وفي صدري زفرات ، وفي عيني عبرات ، لا أدري من أروم ، وعلى من ألقي اللوم ، أألقيه على الحكومات المتخاذلة ، أم الشعوب الغافلة ، أألقيه على العلماء ، أم عامة الشعب والدهماء ، أم أنهم في المسؤولية سواء .
ثم التفت إلي وقال : وأنت ما ذا تقول ، فمثلك يأتي بالجواب المقبول .
قلت : همك وهمتك ، أنستني هموم أمتك ، فأنت السؤال والجواب ، وأنت الحري بالإيجاب ، فلو بذلنا ـ مثلك ـ وسعنا ، لكان الله دوماً معنا ، ولكننا أمة ألهتها الملهيات ، حتى ضاع من الشباب والبنات ، فشبابنا ألهتهم المسابقات ، وأضلتهم القنوات ، أما وكبارنا فالدنيا أشغلتهم ، وصار همهم المؤشر والأسهم ، وصغارنا ألهتهم النوادي ، ، حتى هاموا في حبها بكل وادي ، فأصابنا ما أخبر به الرسول ، نقله عنه الثقات العدول ، ( حب الدنيا وكراهية الموت ) ، فلم يكن لنا بين العالمين رأي أو صوت .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حتى تكوني ليبرالية

المقامة التركية

المثقف بين الأدلجة والدبلجة