"المقامة الثولية"

المقامة الثولية


منذ عام أو يزيد ، غاب خالد بن يزيد ، حتى ظننته هاجر ، ورجع إلى أهله وغادر ، ولكن الغريب فجاءة غيبته ، وسرعة رحلته ، فمنذ معرفتي به لم يفارقني ، ومنذ صحبتي له لم يفاجئني ، فقد كان يخبرني بكل ما يهمه ، وكل ما يقلق خاطره ويغمه ، حتى حسبتنا نفس فرقت في جسدين ، وروح علقت في بدنين ، وبعد طول غياب ، وتسرب اليأس إلى قلوب الأحباب ، صرنا نسلي بعضنا بنوادره ، وجميل أخباره وغرائبه ، فقائل هو أديب ، وآخر يقول بل حر أريب ، ومنهم من قال عزيز قوم ذل ، هانت عليه الدنيا فارتحل ، فغرائبه ونوادره جعلتنا نظن به الظنون ، وبلاغته ورجاحة عقله ليست في أبناء القرون.

وفي ليلة كنا نتسامر ، وفي أخباره نتذاكر ، فإذا برجل عليه أثر السفر والنصب ، يجر خطاه من التعب ، فقمنا نستقبله ، ونسلم عليه ونقبله ، فبادرناه بالطعام والشراب ، فلازلنا ذوو مروءة أعراب ، فاستحيينا أن نسأله عن نفسه ، قبل أن يرتد إليه نفسه ، وخجلنا أن نفك عنه لثامه ، قبل أن نسمع كلامه ، وبعد أن استراح ، وشرب من اللبن أقداح ، شرع بالكلام ، وفك عن وجهه اللثام ، فإذا هو صاحبنا، وخلنا وفقيدنا ، فقمنا نقبله ونضمه ، ومن فرط الشوق نشمه ، ثم سألناه عن غيابه ، وأسرفنا في عتابه ، فقال: لو علمتم ما عندي من الأخبار ، وما كشفت لكم من الأسرار ، لطلبتم مني المزيد من الأسفار ، فاسمعوا مني ما أقول ، وتحملوني فكلامي الليلة سيطول ، فلقد رأيت ما لم أره من قبل ، فسمعت ما لم يسمعه ذو عقل.
فقلنا : كلنا آذان صاغية ، وعقول واعية ، فتوكل على من ردك إلينا ، وانثر جواهرك بين أيدينا.

قال : قبل أكثر من عام ، قصدت البلد الحرام ، فرؤيته تجلو الأحزان ، والمكث فيه من متع الزمان ، أما الطواف والقيام ، والسعي والالتزام ، فالنعيم المقيم ، والخير العميم ، فعزمت أن أمكث مدة قصيرة ، فنفسي للخير فقيرة ، وأردت أن أهذبها بالقيام ، وأعسفها بالصيام ، وأربيها بالطواف ، وأؤدبها بالاعتكاف ، وفي أحد الأيام ، صلى بجواري أحد أهل الإسلام ، وكان يدعو بدعاء غريب ، ويردده بصبر عجيب ، وكان يردد اللهم احفظ خادم العلم والحرم ، ومن أراد رفعتنا بين الأمم ، فلما انتهى من الدعاء ، سألته على استحياء ، فقلت : خادم الحرم نعرفه ، فمن خادم العلم والمعرفة ، قال : من بنى دار الحكمة في العصر الحديث ، ومن جمع بين العلم والإيمان في سعي حثيث ، قلت أي دار ، وما هي الأخبار ، قال : ألم تسمع عن جامعة " ثول " ، فأخبارها تشعل جذوة الأمل ، يقال أنها صرح من صروح أهلا الإسلام ، سيجلب إليها كل عالم وإمام ، وكل مخترع همام ، وكل ذي عقل من الأنام ، ليرفع الجهل عن أمتنا ، ونواكب الأمم بعلومنا وقيمنا ، قلت أهو شيء رأيته ، أم خيال تمنيته !!! ، قال سمعتهم يقولون ، والله أعلم بما يسرون ويعلنون ، ومن تمام النعم ، جعلت بجوار الحرم ، فلنذهب لعلنا نرى ما يسرنا ، فنحمد ربنا في سرنا وعلننا ، قلت : توكل على الله ، فما خاب من توكل بمولاه.

فلما وصلنا لـ"ـثول" ، أصابنا الذهول والحول ، مبان ضخمة كبيرة ، ومساحات شاسعة جميلة ، فقلت في نفسي ، جمال المباني ، دلالة على جمال المعاني ! ، فلما دخلنا .. فجعنا ، فقد رأينا ما لم نحلم أن نراه في المنام ، فكيف يكون بجوار البلد الحرام ، رأينا الفضيلة تنحر ، والرذيلة تتبختر ، رأينا الدين يذبح باسم العلم ، والقيم تداس باسم الفهم ، رأينا القوم قد أتوا بقيمهم ، ليمسخونا كأممهم ـ ألا يكفي أن من ذهب إليهم يمسخ ، حتى يأتونا ليوسّخوا من لم يتسخ ـ رأينا البنات بلا حجاب ، يصفقن لهز الشباب ، ورأينا ما لا يسر مسلم ، وما يغنينا عن كل مأتم ، رأينا قطعة من الغرب ، زرعت في جزيرة العرب ، والأدهى من ذلك والأمر ، وكيف فات على ولي الأمر ، أن يكون رئيسها عابد صنم ، بجوار الحرم ، بجوار مكة التوحيد ، ينصّب عباد العبيد ، وكأن الأرحام عقمت ، والعقول أجدبت ، من ذي ديانة وعلم ، وذي مروءة وفهم.

ثم أعتدل في جلسته وقال : وليت الأمر وقف عند هذه الحال ، فقد حصلت حادثة مريبة ، بينت ما يدور في عقول خبيثة ، وهي باختصار ، عندما أجاب عالم على استفسار ، حول الاختلاط في الجامعة ، فقال في كلمة جامعة مانعة ، بعد أن أثنى على ما يستحق الثناء ـ والعدل من شيم العلماء ـ وأنكر ما يستحق الإنكار ، بلغة الوالد حينما يوصي أبناءه الصغار ، وبلغة الرجل حينما يسر لوالده بأسرار ، بلغة هادئة لم ترضي أمثالي ، فالمنكر أعظم من هدم الجبال العوالي ، وما إن انتهى الناصح من نصيحته ـ وهو من هو في مكانته ، فهو من كبار العلماء ، ومن رجال الدولة الأوفياء ، وتاريخه وتاريخ أسرته يغنينا عن كثير من الثناء ـ فإذا الليبراليون يسبون ويشتمون ، ويستعدون ويتوعدون ، ويتهمون ويتوهمون ، فيتهمون العلماء بوطنيتهم ، ويطالبون بعزلهم وتنحيتهم ، في مكر كبار ، وحملة بينت ما يضمر القوم من حقد وصغار ، فكانت ورقة التوت التي بينت عوارهم ، والقشة التي هتكت أسرارهم ، فبينت كذب الحرية المدعاة ، والتعددية المبتغاة، فتبين أن الحرية والليبرالية ، للقوم مجرد مطية.
فقاطعناه ونشيجنا يقطع حديثنا ، ونواحنا قد بح أصواتنا ، وأين العلماء ، والمحتسبون النبلاء ، فهم الناصحون حقاً ، والمنكرون صدقاً، فقال: هُزت المنابر ، ودفقت المحابر ، وأصدرت البيانات ، وكتبت المقالات ، وتكلم الناصحون ، وأفتى المفتون ، حتى قيل : اعلموا أن الشيخ أقيل ، وأُشعل الفتيل ، ولا ينزع هذا الفتيل إلا الاستماع للناصحين ، العلماء الصادقين ، حتى لا يكون هذا الحدث ذريعة للمفسدين ، ومن يريد إشاعة الفاحشة بين المؤمنين ، وحتى لا يكون لأهل الغلو ذريعة ، ليطعن في تحكيم الشريعة.
قلنا : فما أخبار صاحب الدعاء ، قال : خرجنا من الجامعة وأنا أسمعه يتمم بدعاء آخر ..! ، اللهم من أراد بنا وبديننا وبقيمنا وبمبادئنا سوءاً …ثم خفت صوته ، وتغيرت وجهته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حتى تكوني ليبرالية

المثقف بين الأدلجة والدبلجة

المقامة التركية