مقامة المعلمة


حدثني خالد بن يزيد ، ذلك الرحالة الفريد ، عن قصة سمعها ، حدثه من جمعها ، قالها وهو يشتكي ، وعلى حفظه يتكي ، يقول : عزمت معلمة على عمل ، بعدما فقدت الأمل ، حينما ضاقت بها الوسيعة ، وصارت حياتها مريعة ، فخططت لتنتحر ، لتنهي ذلك الأسر ، فتوجهت إلى جبل ، بعدما قتلها الملل ، لتستريح من همها ، وتلحق بأمها ، وفي طريقها ، وجدت ما يعيقها ، وجدت جملة من الأواني ، فأخذتها بلا تواني ، تمسح عنها الغبار ، وتقلبها باستمرار ، حتى لفت انتباهها ، مصباح ملقى بجوارها ، فأخذت تمسحه وتتأمله ، ومن جماله كادت تقبله ، فإذا به يضطرب ، ويخرج منه دخان يقترب ، ومن وسط الدخان ، يخرج صوت يصم الآذان :

أمرك سيدي ، فروحي لروحك تفتدي .
قالت المعلمة : ـ وقد سقطت متألمة ـ من أنت ؟ ومن أي الأجناس كنت ؟
قال : أنا خادم المصباح ، عبدك وضاح .
قالت : ـ بعدما أفاقت ـ تنفذ كل أوامري ، حتى تصحيح دفاتري !
قال : أين الدفاتر ، فلست للوقت هادر ، ولكن ما الذي كنت تفعلين ، في هذا المكان اللعين ؟
قالت : جئت لأنتحر ، وفي بطن الأرض أستتر .
قال : ولماذا الانتحار ؟ يا لؤلؤة المحار .
قالت : ـ بعدما تنهدت ـ تكالبت علي المصائب ،وزادت علي المتاعب ، لا يفارقني هَم ، ولا يزول عني غَم ، أذهب للدوام على الدوام ، قبل يقظة النيام ، أسابق الشمس في شروقها ، وأنافس الطيور في بكورها ، في نظامي نملة ، وفي نشاطي نحلة ، في أناقتي فراشة ، وفي صفائي شاشة ، لا أشتكي من نصب ، ولا أكل من تعب ، لكن للصبر حدود ، وللمقدرة قيود .

فالمديرة .. تلك العجوز الشريرة ، تتلذذ بتعبنا ، وتسعد بنصبنا ، وكأننا في معتقل ، وشقاؤنا لها أمل ، فهمها التحضير ، ذلك اليسير العسير ، يسير على الرجال ، وعسير على ربات الحجال ، نقضي يومنا في تلوينه ، وترتيبه وتزيينه ، ثم لا يعجب المديرة ، ولا المشرفة الأميرة ، فهي في منظرها سنيورة ، وفي جوهرها دكتاتورة ، فلا بد أن تنتقد ، فإن لم تجد .. تجتهد ، تألف القواعد ، وهي من القواعد ، تألّف التعاميم ، والأنظمة العقيم ، وكأنها وزيرة ، أو برفيسورة نحريرة ، أما التصحيح والدفاتر ، فهن الموبقات والكبائر ، تصحيحهن فريضة ، ولو كنت مريضة ، أما الطالبات .. أقصد المعذبات ، ففيهن نفش الغليل ، ونغضب الجليل ، نحاسب بالقطمير ، ونحصي النقير ، ونكثر الطلبات ، حتى نكون نحن الطالبات ، نعيش في اضطراب ، ونمشي بظلمة وضباب ، في الحصة نحن الظالمات ، وخارجها مظلومات ، فيها نرفع العصا ، وخارجها يا ويل من عصا .

فإذا خرجت إلى منزلي ، بيتي وموئلي ، أجدني منهكة ، كأني سلعة مستهلكة ، لا ينظر إلي بعلي ، فهمه شغلي ، وسؤاله عن الراتب ، مسبب المتاعب ، أما ابني... فيبكي لفراق الخادمة ، إذا أخذته منها عامدة ، لأضمه ، وأشمه ، وهو يحسبها أمه ، وما أن أضع رأسي لأنام ، حتى يبدأ مسلسل الأحلام ، فهذه المديرة ، في يدها رشاش وذخيرة ، وفي الأخرى مطرقة ، وحبل ومشنقة ، ومشرفتي .. جنازة في غرفتي ، أما المساعدة ، فمعها قوات مساندة ، تبحث عن مناوبِة ، تركت الفسحة هاربة ، وتطارد المنتظِرة ، لانشغالها بمرآتها والمنظرة ، ثم أستيقظ في ذهول ، وأردد وأقول ، أعوذ بالله ما خاب من رجاه .

قال : يا أخيه ، أمازلت حية ؟ ولكن خذي هذه النصيحة ، لعلها صحيحة ، فقد علمتني السنين ، والأعوام المئين ، أنصحك بالعودة ، لسربك والأوبة ، فالانتحار حرمه الجبار ، وجعل مآل صاحبه النار ، اعلمي أنك مجاهدة ، ولربك عابدة ، وإليه عائدة ، راقبي في عملك العليم ، واستمدي الصبر من الحليم ، واستنصري الناصر الكريم .
قالت : نصيحة من مارد ، ونصرة من شارد ، هذا ما لم أتوقع ، وأسعى إليه وأطمع ، ولكن النبي المؤتمن ، قال : الحكمة ضالة المؤمن .

قلت : يا أبا يزيد ، المزيد ، فالقصة لم تنتهي ، ولنهايتها أشتهي .
قال : لأن المعلمة ، أختنا المسلمة ، جراحه لم تندمل ، والوزارة عنها في شغل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حتى تكوني ليبرالية

المقامة التركية

المثقف بين الأدلجة والدبلجة